ملخص البحث
يتناول البحث تفسير سورة الرحمن تفسيرا موضوعيا ضمن إطار المنهج العلمي للتفسير الموضوعي حيث جاء موضوع سورة الرحمن في غاية الأهمية لبيان رحمة الله عز وجل على خلقه بإمدادهم بنعمه وفضائله وجزيل إحسانه .
وقد استعمل في البحث المنهج التحليلي والاستنباطي وكانت خطة البحث تتركز في دراسة محورين اثنين:
1-التعريف بسورة الرحمن ويتضمن :دراسة اسم السورة وسبب نزولها والوحدة الموضوعية لها وأخيرا مناسبة السورة لما قبلها وما بعدها .
2-التفسير الموضوعي لسورة الرحمن وتقسيمها إلى مجموعات مترابطة خادمة لمحور السورة العام مع بيان مناسبة مفتتح السورة وخاتمتها .
وخلص البحث إلى بعض النتائج المهمة منها :
-انه من اكتمال قدرة الله وعظمته إظهار رحمته على خلقه.
-إن أعظم منة على البشرية إنزال القرآن وتعليمه.
-الوحدة الموضوعية لسورة الرحمن هي أن من رحمته تعالى أن انعم على عباده بهذه النعم الكثيرة والآلاء العظيمة .
المقدمة
الحمد لله الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، والصلاة والسلام على نبي الأمة ، سيدنا محمد الأجل الأكرم ، وعلى آله وصحبه ، ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الأعظم ، وبعد .
أتقدم ببحثي هذا إلى زملائي طلاب العلم و إلى كل من يجمعنا بهم رباط العلم فهذا البحث يشمل تفسير سورة الرحمن تفسيرا موضوعيا الذي نأمل أن ينال على استحسانكم ورضاكم .
و إذ أضع بين أيديكم هذا البحث الذي نرجو أن يكون في المستوى المأمول و نأمل أننا على الأقل لم نقصر و لم نهمل تبيان جواهر عناصر البحث لأننا محصورين بعاملين اثنين يصعب التوفيق في كثير من الأحيان بينهما و هما الوقت الموزع بين مختلف المواد الذي يتشكل منها المنهاج الدراسي و كذلك الإحاطة النسبية بموضوع البحث الذي هو مبتغانا.
نرجو من الأستاذ الموقر و كذلك إخواننا التلاميذ أن لا يبخلوا علينا بملاحظاتهم و اقتراحاتهم البناءة لنصوب أخطاءنا و نتفادى زلاتنا و نتلافى العيوب التي يمكن أننا ولا شك وقعنا فيها.
و الله نسال أن يديم نعمته علينا و أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء وأن يهدينا سواء السبيل .
منهج البحث
الدراسة الموضوعية لسورة قرآنية يغلب عليها استعمال المنهج التحليلي والاستنباطي للآيات بغية استنباط الوحدة الموضوعية للسورة ومن ثم تقسيم السورة إلى مباحث ومجموعات مرتبطة بعضها ببعض ومتعلقة بالوحدة الموضوعية العامة للسورة وعليه كانت طريقة البحث العلمي المتبع هي :
- بيان معالم التفسير الموضوعي للسورة في عدة عناصر مثل الوحدة الموضوعية للسورة من خلال إثبات اسم السورة وتقسيم السورة إلى مجموعات مرتبة بالوحدة الموضوعية وإظهار علم المناسبات بين السورة وما قبلها وما بعدها وبين مفتتح السورة وخواتيمها .
- تخريج الأحاديث النبوية ونسبة الأقوال إلى قائلها .
- الرجوع إلى المصادر الأصلية للمعلومة ومراعاة السابق .
- الاقتصار والإيجاز في تفسير السورة .
- جمع لطائف الفوائد.
أهداف البحث:
-إبراز الوحدة الموضوعية لسورة الرحمن .
-بيان عظمة الله بعظيم نعمه على خلقه .
-إبراز أجل نعمة امتن الله بها على البشرية.
سبب اختيار البحث
دعاني إلى هذه الدراسة الخاصة لسورة الرحمن هو هذا النظم الفريد الذي جاءت عليه والذي أبرز ما فيه هو هذا التكرار لآية من آياتها حيث جاوز كل ما جاء في القرآن من تكرار إذ كررت فيها الآية الكريمة "فبأي ألاء ربكما تكذبان" إحدى وثلاثين مرة.
واختصاص سورة الرحمن بتعداد آلاء الله ونعمائه على خلقه .
وبعذوبة ألفاظها وتناسق نهاية آياتها .
ومن الأسباب أيضا الرقم 25 .
الدراسات السابقة
( تفسير سورة الرحمن) لجمعه عبد القادر المصطيهي.
وتكلم عن ظاهرة التكرار وحكمة التعبير بلفظ الرب وإيثاره على غيره في السورة الكريمة والتحقيق في مكية السورة أو مدنيتها .
(نحو تفسير موضوعي لسور القرآن ) لمحمد الغزالي.
تحدث عن سورة الرحمن لكنه لم يفسرها تفسيرا موضوعيا منهجيا وهو أقرب الى التفسير بالرأي
(السجع في سورة الرحمن) ليوني استقامه .
ويمكن تصنيفه على أنه تفسير بلاغي.
(التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم) لمصطفى مسلم.
خطة البحث: يحتوي هذا البحث على مقدمة ومبحثين وخاتمة .
المقدمة :
1-منهج البحث.
2-أهداف البحث.
3-أسباب اختيار البحث.
4-الدراسات السابقة لموضوع البحث.
المبحث الأول:ويشمل أربعة مطالب.
المطلب الأول :إثبات سورة الرحمن .
المطلب الثاني:سبب نزول السورة والجو الذي نزلت فيه ومكيتها من مدنيتها.
المطلب الثالث :الوحدة الموضوعية لسورة الرحمن.
المطلب الرابع :مناسبة سورة الرحمن لما قبلها وما بعدها .
المبحث الثاني :التفسير الموضوعي لسورة الرحمن ويشمل :
1-آلاء الله الباهرة ونعمه الكثيرة الظاهرة وتوبيخ من يكفر بها.
2- فناء المخلوقات وبقاء الله سبحانه وتعالى.
3- محاسبة الخلائق .
4- أحوال من كفر بنعم الله.
5- ما أعده الله لمن شكر أنعمه .
المبحث الأول بين يدي سورة الرحمن
المطلب الأول :اثبات اسم سورة الرحمن
وردت تسميتها بسورة الرحمن بنص واحد بقول للرسول صلى الله عليه وسلم وهو مارواه علي بن ابي طالب رضي الله عنه ((لكل شىء عروس ، و عروس القرآن الرحمن ))
قال عنه الألباني منكر ولا يعتد بهذا لحديث.
أما بأقوال الصحابة فوردت بكثرة منها:
مارواه الترمذي عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه , فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها , فسكتوا , فقال (( لقد قرأتها على الجن ليلة الجن , فكانوا أحسن مردودا منكم , كنت كلما أتيت على قوله فبأي آلاء ربكما تكذبان قالوا : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب , فلك الحمد))
وعن نهيك بن سنان السلمي أنه أتى عبد الله بن مسعود فقال ( قرأت المفصل الليلة في ركعة فقال : هذاً مثل هذ الشعر أو نثراً مثل نثر الدقل إنما فصل لتفصلوا لقد علمت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن عشرين سورة الرحمن والنجم على تأليف ابن مسعود كل سورتين في ركعة وذكر الدخان وعم يتساءلون في ركعة) قال عنه احمد شاكر اسناده صحيح .
ولا نستطيع الجزم هل هي مسماة بالنص سورة الرحمن أم سميت بها لبدايتها بالرحمن فيحتمل هذا وذاك .
المطلب الثاني :سبب نزول سورة الرحمن وأين نزلت
قال القرطبي : وأنزلت حين قالوا: وما الرحمن ؟ وقيل: نزلت جوابا لاهل مكة حين قالوا: إنما يعلمه بشر وهو رحمان اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله تعالى: (الرحمن)
قال الشنقيطي : قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا تَجَاهَلَ الْكُفَّارُ الرَّحْمَنَ - جَلَّ وَعَلَا - كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ )
فصل في مكية سورة الرحمن
قال القرطبي :سورة الرحمن مكية كلها في قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس: إلا آية منها هي قوله تعالى: (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية. وهي ست وسبعون آية. وقال ابن مسعود ومقاتل: هي مدنية كلها. والقول الأول أصح لما روى عروة بن الزبير قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن مسعود، وذلك أن الصحابة قالوا: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: إنا نخشى عليك، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى ثم قام عند المقام فقال: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ثم تمادى رافعا بها صوته وقريش في أنديتها، فتأملوا وقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا: هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه. وصح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام يصلي الصبح بنخلة، فقرأ سورة (الرحمن) ومر النفر من الجن فآمنوا به.
وفي الترمذي عن جابر قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أصحابه فقرأ عليهم سورة (الرحمن) من أولها إلي آخرها فسكتوا، فقال: (لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله:) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد) قال: هذا حديث غريب. وفي هذا دليل على أنها مكية والله أعلم. وروي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتل علي مما أنزل عليك، فقرأ عليه سورة (الرحمن) فقال: أعدها، فأعادها ثلاثا، فقال: والله إن له لطلاوة، وإن عليه لحلاوة، وأسفله لمغدق، وأعلاه مثمر، وما يقول هذا بشر، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.انتهى كلام القرطبي
لكن الغريب واللافت ان القرطبي ذكر قول ابن مسعود أنها مدنية ثم اردفه بقراءته لسورة الرحمن عند الكعبة مناقضا لقوله والراجح انها مكية لما رواه الترمذي عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه , فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها , فسكتوا , فقال : لقد قرأتها على الجن ليلة الجن , فكانوا أحسن مردودا منكم , كنت كلما أتيت على قوله فبأي آلاء ربكما تكذبان قالوا : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب , فلك الحمد . حسنه الألباني ومعلوم ان ليلة الجن حدثت بمكة.
فضل السورة
لم يرد في فضل سورة الرحمن الا حديث حديث علي بن ابي طالب رضي الله عنه ((لكل شىء عروس ، و عروس القرآن الرحمن )
قال عنه الألباني منكر فلا يؤخذ به.
المطلب الثالث :الوحدة الموضوعية لسورة الرحمن
برزت في هذه السورة الكريمة لمسات الرحمة ومعرض آلآء الرحمن على عباده كوحدة موضوعية.
قال ابن عاشور:وأوثر استحضار الجلالة باسم { الرحمن } دون غيره من الأسماء لأن المشركين يأبون ذكره فجمع في هذه الجملة بين ردَّين عليهم مع ما للجملة الاسمية من الدلالة على ثبات الخبر ، ولأن معظم هذه السورة تعداد للنعم والآلاء فافتتاحها باسم { الرحمن } براعة استهلال
(فسورة الرحمن ذات نسق خاص ملحوظ . إنها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير ،
وإعلام بآلاء الله الباهرة الظاهرة
في جميل صنعه
وإبداع خلقه؛
وفي فيض نعمائه؛
وفي تدبيره للوجود وما فيه
؛ وتوجه الخلائق كلها إلى وجهه الكريم . .
وهي إشهاد عام للوجود كله على الثقلين
الإنس والجن المخاطبين بالسورة على السواء
في ساحة الوجود
على مشهد من كل موجود
مع تحديهما إن كانا يملكان التكذيب بآلاء الله ، تحدياً يتكرر عقب بيان كل نعمة من نعمه التي يعددها ويفصلها ، ويجعل الكون كله معرضاً لها ، وساحة الآخرة كذلك .
ورنة الإعلان تتجلى
في بناء السورة كلها
وفي إيقاع فواصلها . .
تتجلى في إطلاق الصوت إلى أعلى
وامتداد التصويت إلى بعيد
كما تتجلى في المطلع الموقظ
الذي يستثير الترقب والانتظار لما يأتي بعد المطلع من أخبار
. . الرحمن . .
كلمة واحدة .
مبتدأ مفرداً . .
الرحمن .
كلمة في معناها الرحمة
وفي رنتها الإعلان
والسورة بعد ذلك بيان للمسات الرحمة ومعرض لآلاء الرحمن )
* ابتدأت السورة بتعديد ءالاء الله الباهرة، ونعمه الكثيرة الظاهرة على العباد، التي لا يحصيها عدٌّ، وفي مقدمتها نعمة "تعليم القرآن" بوصفه المنَّةالكبرى على الإِنسان، تسبق في الذكر خلق الإِنسان ذاته وتعليمه البيان {الرحمن * علَّم القرآن * خلق الإِنسان * علَّمه البيان}.
* ثم فتحت السورة صحائف الوجود، الناطقة بألاء الله الجليلة، وآثاره العظيمة التي لا تحصى، الشمس والقمر، والنجم والشجر، والسماء المرفوعة بلا عمد، وما فيها من عجائب القدرة وغرائب الصنعة، والأرضُ التي بثَّ فيها من أنواع الفواكه، والزروع، والثمار، رزقاً للبشر {الشمسُ والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان ..} الآيات.
* وتحدثت السورة عن دلائل القدرة الباهرة في تسيير الأفلاك، وتسخير السفن الكبيرة تمخر عباب البحار وكأنها الجبال الشاهقة عظمةً وضخامة، وهي تجري فوق سطح الماء {وله الجوار المنشآتُ في البر كالأعلام .. } الآيات.
* ثم بعد ذلك الاستعراض السريع لصفحة الكون المنظور، تُطوى صفحات الوجود، وتتلاشى الخلائق بأسرها، فيلفها شبح الموت الرهيب، ويطويها الفناء، ولا يبقى إلا الحي القيوم متفرداً بالبقاء {كلُّ من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإِكرام}.
* وتناولت السورة أهوال القيامة، فتحدثت عن حال الأشقياء المجرمين، وما يلاقونه من الفزع والشدائد في ذلك اليوم العصيب {يُعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام..} الآيات.
* وبعد الحديث عن مشهد العذاب للمجرمين، تناولت السورة مشهد النعيم للمتقين في شيء من الإِسهاب والتفصيل، حيث يكونون في الجنان مع الحور والولدان {ولمن خاف مقام ربه جنتان . .} الآيات.
* وختمت السورة بتمجيد الله جل وعلا والثناء عليه، على ما أنعم على عباده من فنون النعم والإِكرام، وهو أنسب ختامٍ لسورة الرحمن {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإِكرام} وهكذا يتناسق البدء مع الختام في أروع صور البيان .
المطلب الرابع : مناسبة سورة الرحمن لما قبلها وما بعدها
(ولما ختم سبحانه القمر بعظيم الملك وبليغ القدرة ، وكان الملك القادر لا يكمل ملكه إلا بالرحمة ، وكانت رحمته لا تتم إلا بعمومها ، قصر هذه السورة على تعداد نعمه على خلقه في الدارين ، وذلك من آثار الملك)
(ولما قال سبحانه وتعالى في آخر القمر: (بل الساعةِ موعدهم والساعة أَدهى وأَمر) ثم وصف حال المجرمين في سقر، وحال المتقين في جنات ونهر، فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل، على الترتيب الوارد في الإجمال فبدأ بوصف مرارة الساعة، والإشارة إلى إدهائها، ثم وصف النار وأهلها، والجنة وأهلها، ولذا قال فيهم (ولِمن خافَ مقام ربهِ جنتان) وذلك هو عين التقوى ولم يقل: لمن آمن وأطاع، أو نحوه، لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل وعرف بذلك أن هذه السورة بأسرها شرح لآخر السورة التي قبلها فلله الحمد على ما ألهم وفهم
سورة الواقعة
أقول: هذه السورة متآخية مع سورة الرحمن في أن كلا منهما في وصف القيامة، والجنة والنار وانظر إلى اتصال قوله هنا: (إِذا وقعت الواقعة) بقوله هناك: (فإِذا انشقت السماء) ولهذا اقتصر في الرحمن على ذكر انشقاق السماء، وفي الواقعة على ذكر رج الأرض فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة ولهذا عكس في الترتيب فذكر في أول هذه السورة ما ذكره في آخر تلك، وفي آخر هذه ما في أول تلك، فافتتح الرحمن بذكر القرآن، ثم ذكر الشمس والقمر، ثم ذكر النبات، ثم خلق الإنسان، والجان من مارج من نار، ثم صفة القيامة، ثم صفة النار، ثم صفة الجنة وابتدأ هذه بذكر القيامة ثم صفة الجنة، ثم صفة النار، ثم خلق الإنسان، ثم النبات، ثم الماء، ثم النار، ثم النجوم، ولم يذكرها في الرحمن، كما لم يذكر هنا الشمس والقمر، ثم ذكر القرآن فكانت هذه السورة كالمقابلة لتلك، وكردّ العجز على الصدر)
المبحث الثاني :التفسير الموضوعي لسورة الرحمن
المطلب الأول: آلاء الله الباهرة ونعمه الكثيرة الظاهرة وتوبيخ من يكفر بها
بالرحمن ابتدأت سورة الرحمن ليشير سبحانه وتعالى الى أن هذا الإستهلال مابعده كله رحمه.وناخذ من الرحمن صيغه المبالغه كثير الرحمات ومعناها أوسع من الرحيم
ومن أوائل نعمائه وفضائله ونفحات رحماته وأعظمها على الاطلاق تعليم القرآن وإنزاله على هذه الأمة المحمدية وربما ليشمل إنزال جميع الكتب السماوية السابقة وربما هو اختصاص بهذه الأمة لأنه هو معجزتها العظمى وهي باقية الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً فهذا من عظيم رحمته سبحانه وتعالى على هذه الأمة بأن جعل معجزه نبيه خالده يراها جميع من بعده بعكس الأمم السابقة التي لايرون معجزة نبيهم إلا الذين عاصروه وخالطوه.
علم القرآن بأن حفظ هذا القرآن من الضياع والإندثاروتكفل بحفظه(انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون) ليتعلمه الناس فإذا فقد لم يتعلمه الناس كما الأمم السابقة في كتبهم .
علم القران جعله متواترا بحرفه ولفظه غضا كما أنزل فهذه كلها نفحات من رحمته وفيض من نعمائه وآلائه على هذه الامة المحمدية.
علم القرآن علم معانيه وعلم كيفية العمل به وجعل النبي صلى الله عليه وسلم هو
القدوة وهو المطبق بما في هذا القرآن العظيم( أدبني ربي فأحسن تأديبي) وجعل النبي صلى الله عليه وسلم هوالمبين لما استغلق من معانيه.
علم القرآن جعله الله شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة وبشرى للمؤمنين.
(خلق الانسان) أوجده من العدم وجعله في أحسن صورة ( لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم )وهذه نعمة امتن الله بها على خلقه وقدم تعليم القرآن قبل خلق الانسان
مع العلم أن الانسان خلق قبل إنزال القرآن اشاره إلى أن نعمة الله علينا بتعليم القران أشد وأبلغ من نعمته بخلق الإنسان .
(علمه البيان )هو الإفصاح عما يجيش في صدره سواء كان بيانا باللسان أو بالبنان أو بالإشارات والايماءات فالاول: مايتكلم به والثاني: مايكتب به والثالث: في حق الصم والبكم.
(علمه البيان) فهم البيان ويكون بالسمع والنظر والتحسس.فالأول في حق السامع والثاني في حق القاري المبصر والاصم والثالث في حق القاريء الكفيف فهذه كلها نعم امتنها الله على المبصر وعلى الناطق والكفيف والأصم والأبكم.
(الشمس والقمر بحسبان )ثم ذكر الله سبحانه وتعالى نعمة من نعمه فيهما وذلك بأن جعل تعاقب الليل والنهار دليلاً على مرور الزمن بحساب دقيق في منازلهم (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم )(والشمس تجري لمستقرٍ لها ذلك تقدير العزيز العليم )(لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهاروكل في فلك يسبحون )
فيضبط الناس أوقاتهم ومعاملاتهم بها فالقمر يستخدمه المسلمون ولايوجد دوله في العصر الحالي تطبق السنة القمرية في معاملاتها وجميع شؤونها سوى المملكة العربية السعودية أما بقيت دول العالم فيستخدمون السنة الشمسية .
وتتميز كل واحده من هاتين الآيتيين العظيمتيين التي يؤرخ بها الناس بميزات فالسنة الشمسيه لاتتغير بها الفصول والقمرية يكون بها معرفة العبادات .(يسئلونك عن الاهله قل هي مواقيت للناس والحج) ومن بركات السنة القمرية أنهم يقبضون رواتب أعلى ممن يتقاضون رواتبهم استناداً الى السنة الشمسية اذ الفرق إحدى عشر يوماً تقربياً .
(والنجم والشجر يسجدان )اختلف العلماء في النجم هل المقصود به النجم الذي في السماء أم النجم الذي لاساق له؟والراجح أنه الذي لاساق له لأن الآية المتقدمة جمعت
بين عنصرين سماويين وهنا عنصرين أرضيين ويسجدان سجودا حقيقيا ولكن لانعلم كيفيته (ولكن لاتفقهون تسبيحهم ).
(والسماء رفعاها ووضع الميزان) رفع السماء بضخامتها واتساعها وزينها بالنجوم ورصعها ووضع ميزان العدل في الأرض أنزله في القرآن وجعله في فطرة الناس .
فكل من هذه الأمور رحمة من الله على عباده فلو لم توجد السماء مرفوعة لاستحال العيش على هذه الأرض أريت احدا يسكن في خيمة بلا عمد ولا ستحال العيش في أرض لاعدل فيها وإنما الظلم هو القانون وهو الأساس.
وحذر سبحانه من الميل في الميزان وهناك فرق كبير بين الميل في الحكم والميل في المتحاكم إليه أي القانون أو التشريع أو المرجعية أو الميزان فقد يحكم القاضي ويميل في الحكم ومرجعيته سليمة وقد اجتهد فلا حرج عليه ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم (إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وأقضي له على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ ، فإنما أقطع له قطعة من النار) رواه البخاري وإنما المصيبه والطامه الكبرى أن يكون الميل في لسان الميزان بإقرار تشاريع وقوانين تخالف العدل وكل تشريع وقانون لايوافق الكتاب والسنة فهو مائل اللسان.
وأمر الله سبحانه وتعالى بإقامه العدل عند النظر في القضايا من المطبق لهذا التشريع والمرجعية والقانون وتطبيقها نصاً بلا زياده أونقصان ومن رحمته تعالى أن هيأ لناالأرض للسكنى والمعيشة لجميع الخلائق فقال لها وللسماء( ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين )وامتن سبحانه على عباده بإيجاد الفواكه والنخل واضاف ذات الأكمام إلى النخل لوجود نخيل الدوم ونخيل جوز الهند ليتبين المقصود من الآية أنها النخل الذي ينتج التمر وخص به النخل لعظمها وعظم فوائدها وقد شبه النبي صلى الله
عليه وسلم المؤمن بها لعظيم خيرها وانتفاع الناس بها.
(وقوله: {ذو العصف} يعني ما يحصل من ساقه عند يبسه وهو ما يعرف بالتبن؛ لأنه يعصف أي تطؤه البهائم بأقدامها حتى ينعصف، {والريحان } هذا الشجر ذو الرائحة الطيبة، فذكر الله في الأرض الفواكه، والنخل، والحب، والريحان، لأن كل واحد من
هذه الأربع له اختصاص يختص به، وكل ذلك من أجل مصلحة العباد ومنفعتهم)
(فباءي الاء ربكما تكذبان )أي باي نعمه من النعم المذكوره السابقه وقد اجاب الجن وسكت الانس وفي هذا فضل للجن على الانس فقالو لا بايها نكذب يارب.
سر تكرار هذه الآية
كرر سبحانه قوله تعالى(فباءي الاء ربكما تكذبان ) في إحدى وثلاثين موضعا تقريرا للنعمة وتأكيدا للتذكير بها على عادة العرب في الاتساع0 ثمانية منها ذكرت عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعادهم ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها بعدد أبواب جهنم وحسن ذكر الآلاء عقبها لإن من جملة الآلاء رفع البلاء وتأخير العقاب وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما بعدد أبواب الجنة وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين أخذا من قوله تعالى (ومن دونهما جنتان) فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها
استحق الثمانيتين من الله ووقاه السبعة السابقة
ثم ذكر الله عزوجل أعظم المنن بعد تعليم القرآن وهو خلق الإنسان فهما متساويان فهذا الخلق أوجد جسدا وتعليم القرآن أوجد روح الروح إلى أن هذه النظرة متساويان فهذا مادي وهذا معنوي ولكن خلقه من طين أنزله إلى أصله وهو الأرض وإنزاله القرآن وفيه صفه الكلام رفعه إلى اصله وهو السماء.
فيكون تعليم القرآن أعظم منة يليه خلقه سبحانه وتعالى لهذا الإنسان الذي كان أوله تراب فخلط بالماء فصار طينا ثم سنن ثم يبس فكان إذا ضرب أصدر صوتا كالفخار وثم ذكر نعمته سبحانه على الجن وامتنانه عليهم بان خلقهم من صافي اللهب أو المختلط بالدخان.
وفي هذه الآية جعلها منة للإنس أن خلقهم من طين ومنة للجن أن خلقهم من نار وفي مخاطبه ابليس لله عزوجل واعتراضه على السجود لآدم قال أنا خير منه خلقني من نار وخلقته من طين سُكت عن من هو الأفضل في خلقه والمقام مقام رد فهما متساويان ولذلك جعلها الله عز وجل منة لكل منهما ثم يسألهم بأي من هذه النعم يشكرون ولسان الحال اذاً اشكروا هذه النعم بعباده الله وحده (رب المشرقين ورب المغربين) ثم يذكرهم سبحانه وتعالى بأنه هو الذي قدر مشرق الشمس من مشرقين مشرق في الشتاء ومشرق في الصيف ومغرب في الشتاء ومغرب في الصيف فلو كان الوقت كله شتاء أو صيفا لما استقامت الحياة فالناس وطبيعتهم إذا جاء الشتاء واشتد تمنوا الصيف
وإذا أتى الصيف واشتد تمنوا الشتاء يقول أحدهم:
يتمنى المرء في الصيف الشتاء فإذا جاء الشتاء انكره
فهـو لا يرضى بـحـال واحـدة قتل الإنستان ما أكفره
يقول الشنقيطي في أضواءه: اعلم أن لفظة : مرج تطلق في اللغة إطلاقين .
الأول : مرج بمعنى أرسل وخلى . من قولهم : مرج دابته إذا أرسلها إلى المرج ، وهو الموضع الذي ترعى فيه الدواب ، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
وكانت لا يزال بها أنيس ... خلال مروجها نعم وشاء
وعلى هذا فالمعنى : أرسل البحرين وخلاهما لا يختلط أحدهما بالآخر .
والإطلاق الثاني مرج بمعنى : خلط ، ومنه قوله تعالى : { يا أَمْرٍ مَّرِيجٍ } [ ق : 5 ]
أي مختلط ، فعلى القول الأول : فالمراد بالبحرين الماء العذب في جميع الدنيا ، والماء الملح في جميعها .
وقوله : { هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ } يعني به ماء الآبار ، والأنهار والعيون في أقطار الدنيا .
وقوله : { وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي البحر الملح ، كالبحر المحيط ، وغيره من البحار التي هي ملح أجاج ، وعلى هذا التفسير فلا إشكال .
وأما على القول الثاني بأن مرج بمعنى خلط ، فالمعنى : أنه يوجد في بعض المواضع اختلاط الماء الملح والماء العذب في مجرى واحد ، ولا يختلط أحدهما بالآخر ، بل يكون بينهما حاجز من قدرة الله تعالى ، وهذا محقق الوجود في بعض البلاد ، ومن
المواضع التي هو واقع فيها المحل الذي يختلط فيه نهر السنغال بالمحيط الأطلسي
بجنب مدينة سانلويس ، وقد زرت مدينة سانلويس عام ست وستين وثلاثمائة وألف هجرية ، واغتسلت مرة في نهر السنغال ، ومرة في المحيط ، ولم آت محل اختلاطهما ، ولكن أخبرني بعض المرافقين الثقاة أنه جاء إلى محل اختلاطهما ، وأنه جالس يغرف بإحدى يديه عذباً فراتاً ، وبالأخرى ملحاً أجاجاً ، والجمع في مجرى واحد ، لا يختلط أحدهما بالآخر . فسبحانه جل وعلا ما أعظمه ، وما أكمل قدرته .
يقول ابن عبد السلام في تفسيره: { وَالْمَرْجَانُ } كبار اللؤلؤ ، أو صغاره ، أو الخرز الأحمر كالقضبان قاله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، أو الجوهر المختلط من مرجت الشيء خلطته { مِنْهُمَا } من أحدهما ، أو من كليهما لأن ماء بحر السماء إذا وقع في صدف البحر انعقد لؤلؤاً فصار خارجاً منهما ، وقيل : لا يخرج اللؤلؤ إلا من موضع يلتقي في العذب والملح فيكون العذب كاللقاح للملح فلذلك نسب اليهما كما نسب الولد إلى الذكر والأنثى
يقول الشيخ ابن عثيمين{وله الجوار المنشئات في البحر كالأَعلام } أي لله - عز وجل - ملكاً وتدبيراً وتيسيراً {الجوار} بحذف الياء للتخفيف، وأصلها الجواري جمع جارية، وهي السفينة تجري في البحر كما قال الله - عز وجل -: {ألم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمت الله} {المنشئات} أي: التي أنشأها صانعوها ليسيروا عليها في البحر، وقوله: {في البحر} متعلق بالجواري أي الجواري في البحر، وليست فيما يظهر متعلقة بالمنشآت، يعني الجواري التي تصنع في البحر، لأن السفن تصنع في البر أولاً، ثم
تنزل في البحر، وقوله: {كالأَعلام } تشبيه، والأعلام جمع علم وهو الجبل، كما قال
الشاعر:
وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
كأنه جبل، ومن شاهد السفن في البحار رأى أن هذا التشبيه منطبق تماماً عليها،
فهي كالجبال تسير في البحر بأمر الله - عز وجل -، وإنما نص الله عليها لأنها تحمل الأرزاق من جانب إلى جانب، ولولا أن الله تعالى يسرها لكان في ذلك فوات خير كثير للبلاد التي تنقل منها والبلاد التي تنقل إليها، وفي هذا العصر جعل الله تبارك وتعالى جواري أخرى، لكنها تجري في الجو، كما تجري هذه في البحر، وهي الطائرات، فهي منة من الله - عز وجل - كمنته على عباده في جواري البحار، بل ربما نقول: إن
السيارات أيضاً من جواري البر، فتكون الجواري ثلاثة أصناف: بحرية، وبرية، وجوية، وكلها من نعم الله - عز وجل -، ولهذا قال: {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } أي بأي: نعمة من نعم الله تكذبان، والخطاب للإنس والجن . تفسير ابن عثيمين
من هداية الايات :
1-الرحمة من أعظم صفات الله عزوجل فمصدر الرحمات في هذا الكون منه وحده فيجب التعرض لرحماته في مظانها .
2-القران الكريم من أعظم هبات الله عزوجل لخلقه فيجب العض عليه والمحافظة عليه
3-الجن والانس امتن الله سبحانه وتعالى عزوجل بخلقهم فلايصح رمي الطيش والشر
والإزدراء لواحد دون الآخرلأن خلقهم نعمة من نعم الله.
4-أن الله سبحانه وتعالى أورد في القرآن المشرق والمغرب بالإفراد وقصد بها الجهة
وهنا في السورة ثنى وقصد بها مطلعها في الشتاء والصيف وأوردها بالجمع وقصد بها أنها لها في كل يوم مطلع ومغرب لاتطلع ولاتغرب منه إلامرة واحدة في السنة .
ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ
المطلب الثاني: فناء المخلوقات وبقاء الله سبحانه وتعالى
(والآن ينتهي هذا الاستعراض في صفحة الكون المنظور ، وتطوى صفحة الخلق الفاني ، وتتوارى أشباح الخلائق جميعاً ، ويفرغ المجال من كل حي ، ويتجلى وجه الكريم الباقي ، متفرداً بالبقاء ، متفرداً بالجلال؛ وتستقر في الحس حقيقة البقاء ، وهو يشهد ظلال الفناء :
{ كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } . .
وفي ظل هذا النص القرآني تخفت الأنفاس ، وتخشع الأصوات ، وتسكن الجوارح . . وظل الفناء يشمل كل حي ، ويطوي كل حركة ، ويغمر آفاق السماوات والأرض وجلال
الوجه الكريم الباقي يظلل النفوس والجوارح ، والزمان والمكان ، ويغمر الوجود كله بالجلال والوقار . .
ولا يملك التعبير البشري أن يصور الموقف؛ ولا يملك أن يزيد شيئاً على النص القرآني ، الذي يسكب في الجوانح السكون الخاشع ، والجلال الغامر ، والصمت الرهيب ، والذي يرسم مشهد الفناء الخاوي ، وسكون الموت المخيم بلا حركة ، ولا نأمة في هذا الكون الذي كان حافلاً بالحركة والحياة . ويرسم في الوقت ذاته حقيقة البقاء الدائم ، ويطبعها في الحس البشري لا يعرف في تجاربه صورة للبقاء الدائم؛ ولكنه يدركها بعمق في ذلك النص القرآني العجيب!
ويعقب على هذه اللمسة العميقة الأثر بنفس التعقيب . فيعد استقرار هذه الحقيقة . حقيقة الفناء لكل من عليها ، وبقاء الوجه الجليل الكريم وحده . يعد استقرار هذه الحقيقة نعمة يواجه بها الجن والإنس في معرض الآلاء : { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ }
وإنها لنعمة ، بل هي أساس النعم كلها جميعاً . فمن حقيقة الوجود الباقي ينبثق كل هذا الخلق؛ وناموسه ونظامه وخصائصه . كما تستقر سننه وقيمه ومآله وجزاؤه . والحي الباقي هو الذي يخلق ويبدع ، وهو الذي يحفظ ويكلأ ، وهو الذي يحاسب ويجزي . وهو الذي يشرف من أفق البقاء على ساحة الفناء . . فمن حقيقة البقاء إذن تنبثق جميع الآلاء . وما يبزغ هذا العالم وما يستقيم أمره إلا ووراءه هذه الحقيقة . حقيقة البقاء وراء الفناء .
ومن حقيقة البقاء الدائم وراء الخلق الفاني ، تنبثق حقيقة أخرى . . فكل أبناء الفناء إنما يتجهون في كل ما يقوم بوجودهم إلى الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم :
{ يسأله من في السماوات والأرض ، كل يوم هو في شأن . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ }
يسأله من في السماوات والأرض ، فهو مناط السؤال؛ وغيره لا يسأل لأنه فان لا يتعلق به سؤال . . يسألونه وهو وحده الذي يستجيب ، وقاصده وحده هو الذي لا يخيب . وما يتجه احد إلى سواه إلا حين يضل عن مناط السؤال ومعقد الرجاء ومظنه الجواب . وماذا يملك الفاني للفاني وماذا يملك المحتاج للمحتاج؟
وهو سبحانه - كل يوم هو في شأن . وهذا الوجود الذي لا تعرف له حدود ، كله منوط بقدره ، متعلق بمشيئته ، وهو قائم بتدبيره . هذا التدبير الذي يتناول الوجود كله جملة؛ ويتناول كل فرد فيه على حدة ، ويتناول كل عضو وكل خلية وكل ذرة . ويعطي كل شيء خلقه ، كما يعطيه وظيفته ، ثم يلحظه وهو يؤدي وظيفته .
هذا التدبير الذي يتبع ما ينبت وما يسقط من ورقة ، وما يكمن من حبة في ظلمات الأرض ، وكل رطب وكل يابس . يتبع الأسماك في بحارها ، والديدان في مساربها ، والحشرات في مخابئها . والوحوش في أوكارها ، والطيور في أعشاشها . وكل بيضة وكل فرخ . وكل جناح . وكل ريشة . وكل خلية في جسم حي .
وصاحب التدبير لا يشغله شأن عن شأن ، ولا يند عن علمه ظاهر ولا خاف ومن هذا الشأن شأن العباد في الأرض من إنس وجن . ومن ثم فهو يواجههما بهذه النعمة مواجهة التسجيل والإشهاد : { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } . ..
من هدايه الايات :
1-الموت نعمة للمومن ونقمة للكافر لأن المؤمن ينتقل من دارإلى دار أفضل من داره والكافر ينتقل الى الجحيم .
2-الموت ينظم الحياة فلولا الموت لما بقي مكان يتسع لأحد فيه .
3-دعاء الله وسؤاله في كل الحاجات فطرة تشترك فيها الخلائق ماعدا الكافر.
المطلب الثالث: محاسبة الخلائق
وبتقرير حقيقة البقاء وراء الفناء ، وما ينبثق منها من حقيقة الاتجاه الكلي إلى الواحد الباقي ، وتعلق مشيئته - سبحانه - بشئون الخلائق وتقديرها وتدبيرها ، فضلاً منه ومنة على العباد . .
بتقرير هذه الحقيقة الكلية وما ينبثق عنها من حقائق ينتهي الاستعراض الكوني ، ومواجهة الجن والإنس به؛ ويبدأ مقطع جديد . فيه تهديد وفيه وعيد . تهديد مرعب مفزع ، ووعيد مزلزل مضعضع . تمهيداً لهول القيامة الذي يطالع الثقلين في سياق السورة بعد ذاك :
{ سنفرغ لكم أيها الثقلان . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا . لا تنفذون إلا بسلطان . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ }
{ سنفرغ لكم أيها الثقلان } . .
يا للهول المرعب المزلزل ، الذي لا يثبت له إنس ولا جان . ولا تقف له الجبال الرواسي ولا النجوم والأفلاك!
الله . جل جلاله . الله القوي القادر ، القهار الجبار ، الكبير المتعال . الله - سبحانه - يفرغ لحساب هذين الخلقين الضعيفين الصغيرين : الجن والإنس ، في وعيد وانتقام!
إنه أمر . إنه هول . إنه فوق كل تصور واحتمال!
والله - سبحانه - ليس مشغولاً فيفرغ . وإنما هو تقريب الأمر للتصور البشري . وإيقاع الوعيد في صورة مذهلة مزلزلة ، تسحق الكيان بمجرد تصورها سحقاً . فهذا الوجود كله نشأ بكلمة . كلمة واحدة . كن فيكون . وتدميره أو سحقه لا يحتاج إلا واحدة كلمح بالبصر . . فكيف يكون حال الثقلين ، والله يفرغ لهما وحدهما ، ليتولاهما بالانتقام؟!
وفي ظل هذا الهول الرعيب يسأل الثقلين المسكينين : { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } !
ثم يمضي في الإيقاع المرعب المزلزل ، يتحداهما أن ينفذا من أقطار السماوات والأرض :
{ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا } . .
وكيف؟ وأين؟
{ لا تنفذون إلا بسلطان } .
ولا يملك السلطان إلا صاحب السلطان . .
ومرة أخرى يواجههما بالسؤال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ؟
وهل بقي في كيانهما شيء يكذب أو يهم بمجرد النطق والبيان؟!
ولكن الحملة الساحقة تستمر إلى نهايتها ، والتهديد الرعيب يلاحقهما ، والمصير المردي يتمثل لهما :
{ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران } . .
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } !
إنها صورة من الهول فوق مألوف البشر - وفوق مألوف كل خلق - وفق تصور البشر وتصور كل خلق . وهي صورة فريدة ، وردت لها نظائر قليلة في القرآن ، تشبهها ولا تماثلها . كما قال تعالى مرة : { وذرني والمكذبين أولي النعمة } وكما قال : { ذرني ومن خلقت وحيداً } وما يزال قوله تعالى : { سنفرغ لكم أيها الثقلان } . . أعنف وأقوى وأرعب وأدهى ومن هنا إلى نهاية السورة تبدأ مشاهد اليوم الآخر . مشهد الانقلاب الكوني يوم القيامة . وما يعقبه من مشاهد الحساب . ومشاهد العذاب والثواب .
من هدايه الايات
1-من أعظم منن الله على خلقه أن أرسل الرسل ليبشروا المومنين وينذروا الكافرين
2- في هذه الآيات يتحدى الله سبحانه وتعالى الجن والإنس أن ينفذوا وأن يتجاوزا السماء الدنيا وقد ثبت علميا أن أقرب مجرة لنا مجرة اندورميدا وتبعد 2مليون و900000سنه ضوئية فلو فرضنا اننا بلغنا تقنية عظيمة ووصلنا لسرعة كسرعه الضوء فمن يملك عمرمليوني وتسعمائه ألف سنه فلا يستطيع أحد ذلك من البشر وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة بل وصل إلى السماء السابعة.
3- يوم القيامه آت لار يب فيجب الإستعداد له .
ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ
المطلب الرابع: أحوال من يكفر بنعم الله
ويبدأ استعراض هذه المشاهد بمشهد كوني يتناسب مع مطالع السورة ومجالها الكوني :
{ فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان } .
وردة حمراء ، سائلة كالدهان . . ومجموع الآيات التي وردت في صفة الكون يوم القيامة تشير كلها إلى وقوع دمار كامل في هذه الأفلاك والكواكب ، بعد انفلاتها من النسق الذي يحكمها الآن ، وينسق بين مداراتها وحركاتها . منها هذه الآية . ومنها : { إذا رجت الأرض رجا ، وبست الجبال بسا ، فكانت هباء منبثا } ومنها : { فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر } ومنها { إذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ، وإذا الجبال سيرت . وإذا العشار عطلت . وإذا الوحوش حشرت . وإذا البحار سجرت } ومنها { إذا السماء انفطرت ، وإذا الكواكب انتثرت . وإذا البحار فجرت } { إذا السماء انشقت ، وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ، وأذنت لربها وحقت } وهذه وغيرها تشير إلى ذلك الحادث الهائل الذي سيقع في الكون كله . ولا يعلم حقيقته إلا الله . .
{ فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان } . . { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } ولا تكذيب عندئذ ولا نكران . . .)
قال الامام الشوكاني :{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ } أي : يوم تنشقّ السماء لا يسأل أحد من الإنس ولا من الجنّ عن ذنبه؛ لأنهم يعرفون بسيماهم عند خروجهم من قبورهم ، والجمع بين هذه الآية ، وبين مثل قوله : { فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] أن ما هنا يكون في موقف ، والسؤال في موقف آخر من مواقف القيامة ، وقيل : إنهم لا يسألون هنا سؤال استفهام عن ذنوبهم؛ لأن الله سبحانه قد أحصى الأعمال ، وحفظها على العباد ، ولكن يسألون سؤال توبيخ وتقريع ، ومثل هذه الآية قوله : { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } [ القصص : 78 ] قال أبو العالية : المعنى : لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم . وقيل : إن عدم السؤال هو عند البعث ، والسؤال هو في موقف الحساب { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن من جملتها هذا الوعيد الشديد؛ لكثرة ما يترتب عليه من الفوائد . { يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم } هذه الجملة جارية مجرى التعليل لعدم السؤال . السيما : العلامة . قال الحسن : سيماهم سواد الوجوه وزرقة الأعين ، كما في قوله : { وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } [ طه : 102 ] وقال : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] وقيل : سيماهم ما يعلوهم من الحزن والكآبة { فَيُؤْخَذُ بالنواصى والأقدام } الجار والمجرور في محل رفع على أنه النائب ، والنواصي : شعور مقدم الرؤوس ، والمعنى : أنها تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي ، وتلقيهم الملائكة في النار . قال الضحاك : يجمع بين ناصيته ، وقدمه في سلسلة من وراء ظهره ، وقيل : تسحبهم الملائكة إلى النار ، تارة تأخذ بنواصيهم وتجرّهم على وجوههم ، وتارة تأخذ بأقدامهم ، وتجرّهم على رؤوسهم { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن من جملتها هذا الترهيب الشديد ، والوعيد البالغ الذي ترجف له القلوب ، وتضطرب لهوله الأحشاء . { هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون } أي : يقال لهم عند ذلك : هذه جهنم التي تشاهدونها ، وتنظرون إليها مع أنكم كنتم تكذبون بها وتقولون إنها لا تكون ، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا يقال لهم عند الأخذ بالنواصي والأقدام؟ فقيل : يقال لهم : هذه جهنم تقريعاً لهم وتوبيخاً . { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا } أي : بين جهنم فتحرقهم { وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ } فتصبّ على وجوههم ، والحميم : الماء الحارّ ، والآن : الذي قد انتهى حرّه وبلغ غايته ، كذا قال الفراء ، قال الزجاج : أَنَى يأنَى أنَّى ، فهو آنٍ : إذا انتهى في النضج والحرارة ، ومنه قول النابغة الذبياني :
وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آن
وقيل : هو واد من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار ، فيغمسون فيه . قال قتادة : يطوفون مرّة في الحميم ، ومرّة بين الجحيم { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن من جملتها النعمة الحاصلة بهذا التخويف ، وما يحصل به من الترغيب في الخير والترهيب عن الشرّ .
من هداية الآيات:
1- محاسبة الكفار فيه شفاءلصدور المؤمنين وعدل في حق الكافرين.
2- اعجاز علمي بان لون السماء يميل الى الإحمرار.
3- من نعم الله على عباده بأن ذكر أهوال يوم القيامة ليتعظوا ويحذروا منها ويعملوا لها.
4- أن كل انسان يعرف على حقيقته من محياه
قال الشاعر
ومهما تكن عند امريء من خليقه وان خالها تخفى على الناس تعلم
المطلب الخامس : ما أعده الله لمن شكر أنعمه
في مقابلة ألوان العذاب على الكفار في الآخرة في سورة الرّحمن، ذكر الله تعالى بعدها ألوان النعيم المادية من الطعام والشراب والفاكهة، والفرش والنساء الحوريات، ترغيبا في التقوى أو العمل الصالح، وتحذيرا من العصيان والمنكرات، فمن خاف ربّه انزجر عن معاصي الله، ومن آمن بالله المستحق للعبودية والطاعة لذاته، أقبل على ساحات الرّضوان الإلهي، وحقق لنفسه السعادة والطمأنينة والهناءة. وأنواع النعيم الأخروي
لمن خاف قيامه بين يدي ربّه للحساب، بالكفّ عن المعاصي والتزام الطاعات:
نعمتان كبريان: روحية ومادية، أما الروحانية: فهي رضا الله تعالى كما في قوله:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التّوبة: 9/ 72]. وأما المادية: فهي جنّتان تشتملان على متع الدنيا في الشكل، لكنها أسمى منها وأفضل، فهما جنّتان لا جنّة واحدة. فبأي نعم الله تكذبان أيها الثّقلان؟ فإن نعم الجنان لا مثيل لها، فضلا عن دوامها. وهذا دليل على أن الجن المؤمنين يدخلون الجنة إذا اتّقوا معاصي ربّهم وخافوه.
وللجنتين الماديتين أغصان الأشجار وأنواع الثمار، فبأي نعم ربّكما أيها الإنس والجنّ تكذّبان؟
وقد نزلت آية: وَلِمَنْ خافَ فيما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال: في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه.
وفي كل من الجنتين عين جارية، لسقي الأشجار والأغصان، والاثمار من جميع الأنواع، فبأي نعم ربّكما معشر الجنّ والإنس تكذبان؟ فتلك حقيقة قاطعة، وواقع ملموس.
وفي هاتين الجنّتين من كل فاكهة صنفان، يستلذّ بكل واحد منهما، أحدهما: رطب، والآخر يابس، لا يتميز أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب، خلافا لثمار الدنيا، بل فيهما مما يعلم وخير مما يعلم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فبأي هذه النعم تكذبان أيها الإنس والجنّ؟ وهي نعم واقعية وثابتة.
ثم بعد الطعام ذكر الله الفراش، فهؤلاء الخائفون من عصيان الله يتنعمون على فرش بطائنها (وهي ما تحت الظهائر) من إستبرق (ما غلظ من الدّيباج) وثمر الجنّتين أو المجتنى قريب التناول. فبأي شيء من هذه النّعم يحصل التكذيب والإنكار؟! وكلمة مُتَّكِئِينَ إما حال من محذوف تقديره: يتنعمون متكئين، وإما من قوله تعالى:
وَلِمَنْ خافَ. والاتّكاء: جلسة المتنعّم المتمتّع.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له: بطائنها من إستبرق، فما الظواهر؟ قال: ذاك مما قال الله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السّجدة: 32/ 17] وكذلك قال. والجنى: ما يجتنى من الثمار، ووصف بالدنوّ لأنه فيما روي في الحديث يتناوله الرجل على أي حالة كان، من قيام أو جلوس أو اضطجاع، لأنه يدنو إلى مشتهيه. ثم وصف الله الحور العين في الجنّتين، فقال:
فِيهِنَّ قاصِراتُ .. أي في الجنّتين الحور العين اللاتي قصرن ألحاظهن على أزواجهن، لم يفتضضهنّ قبلهم أحد من الإنس أو الجن. ويقال لدم الحيض ولدم الافتضاض: طمث، فإذا نفي الطمث فقد نفي القرب منهن على جهة الوطء.
والضمير في قوله: فِيهِنَّ عائد للجنات، إذ الجنّتان جنات في المعنى. فبأي النّعم تكذبان أيها الثّقلان؟! ومعنى قوله: وَلا جَانٌّ يحتمل أن يكون اللفظ مبالغة وتأكيدا، كأنه تعالى قال: لم يطمثهن شيء. ويحتمل أن الجن قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوج الله تعالى، فنفى في هذه الآية جميع المجامعات.
وصف الله نساء الحور بكأنهن الياقوت صفاء، والمرجان بياضا أو حمرة، فبأي شيء من نعم الله تعالى تكذبان أيها الإنس والجن؟
ثم بيّن الله سبب هذا الثواب، بقوله: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ .. أي ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة، فبأي شيء من نعم الله تكذبان معشر الجن والإنس؟ وهذه آية وعد وبشرى لنفوس جميع المؤمنين، لأنها عامة
ومن دون الجنّتين المتقدمتين في بيان سورة الرّحمن في المنزلة والقدر: جنّتان أخريان. والجنّتان الأوليان: جنّتا السابقين، والأخريان جنّتا أصحاب اليمين. فبأي شيء من النّعم الإلهية تكذّبان أيها الإنس والجنّ؟
والجنّتان شديدتا الخضرة، من شدة الرّي المائي. فبأي نعم الله تكذبان معشر الجن والإنس؟
وفي الجنّتين عينان فيّاضتان فوّارتان بالماء العذب، فهناك جنّتان تجريان بالأنهر، وجنّتان فوّارتان، والجري أقوى من النّضخ. فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟
وفي هاتين الجنّتين نساء جميلات، خيّرات الأخلاق، حسان الوجوه، فبأي نعم الله تكذبان أيها الجن والإنس؟! وهؤلاء النساء الخيرات، حور شديدات البياض، واسعات الأعين، مع شدة السواد وشدة البياض وصفائه، مخدرات محجّبات مستورات في خيام الجنّة، المكونة من الدّر المجوفة. والخيام: البيوت من الخشب، لا يتبذلن في شارع ولا سوق، ولا يخرجن لبيع أو شراء، وهنّ مقصورات على أزواجهن، لا ينظرن إلى رجال غيرهن.
وهذه هي المرأة المحببة للرجال، خلافا لأذواق المنحلّين اليوم.
ولم يمسّهن ولم يجامعهن قبل ذلك أحد من الإنس والجن، توفيرا للمتّقين الخائفين ربّهم، فبأي نعم الله تكذبان؟
هؤلاء الأتقياء البررة متكئون على وسائد خضراء، وبسط منقوشة بديعة، فاخرة الصنع، فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟! ويلاحظ أن أثاث الجنّتين الأوليين أرفع من هذه الصفة، فإنه تعالى قال فيهما هناك: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فبأي شيء من هذه النّعم تكذّبان معشر الجنّ والإنس؟! وختمت الصفات المتقدمة في الجنّتين الأوليين ببيان سببها وهو: أن استحقاق هذا الفضل والإحسان جزاء الإحسان المتقدم في الدنيا.
وهنا ختمت هذه الصفات والسورة كلها بالإقرار بمصدر هذا الفضل، وهو الله تعالى الذي تنزه عن كل ما لا يليق به، فهو المتفرّد بصفات العزّة والعظمة، وإكرام عباده المخلصين، وهو أحقّ بالعبادة والإجلال فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى. وهذه الخاتمة تدلّ على بقاء أهل الجنة ذاكرين اسم الله، منزهين له، مستمتعين به. وأما أوصاف نعيم الدنيا فختمت بما يشير إلى فناء كل شيء من الممكنات يوم القيامة مع بقاء الله: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27).
وفي الجملة: هناك لأهل التقوى أربع جنان ذات منازل مختلفة، اثنتان منهما للمقرّبين السابقين، واثنتان دونهما في المكانة والمنزلة لأصحاب اليمين. والفروق واضحة بين كل من النوعين، وذلك دليل على إقامة صرح العدالة في الثواب والتكريم، فلا يستوي كل فريق مع الآخر، مع تفاوتهما في العمل الصالح، وممارسة كل مظاهر التقوى، وأعمال البر في الدنيا، مما يؤهل كل فريق لما أعدّه الله له من الإحسان والنّعم الموافية لعمله.
وختمت السورة بتمجيد الله جل وعلا والثناء عليه، على ما أنعم على عباده من فنون النعم والإِكرام في بداية السورة وهو أنسب ختامٍ لسورة الرحمن {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإِكرام}وهكذا تناسق في البدء مع الختام في أروع صور البيان .
من هداية الآيات:
1-من نعم الله على خلقه أن وصف الجنه لعباده ليتشوقوا لها ويجتهدوا في العبادة.
2-قصر الطرف للمرأة على زوجها فقط مما يزيدها نضرة وجمالاعند الزوج.
3-عظم فائدة النخل والرمان لخصهما الذكرعند وصف الجنان .
4-من أعظم منن الله على من أطاعه في الجنه الحور العين.
5-في هذة السورة كلها منن ونعم وفضائل وخيرات وذكر فيها من أسمائه وصفاته الرحمن والله وذو الجلال والاكرام فمن دعا بجلب نعم وخيرات فمن المناسب أن يدعو الله بهذه الاسماء والصفات.
الخاتمة
في خاتمة هذا البحث في سورة الرحمن نخلص الى عده نتائج في هذا البحث منها
1- ان افضل منهج لدراسة أي سورة وتفسيرها تفسيرا موضوعيا هو المنهج التحليلي الاستنباطي .
2- اثبات مكية سورة الرحمن
3- الوحدة الموضوعية لسورة الرحمن تدور حول رحمة الله عزوجل بعباده بأن أنعم عليهم بنعمه الكثيرة وآلائه الجليلة.
4- إن أعظم نعمة على الخلق هي إنزال القرآن وتعليمه للناس.
5- الموت راحة للمؤمن وجحيم للكافر.
6- دعوة للباحثين في اعجاز القرآن باظهار البحوث المختصة بهذة السورة الى عامة الناس.
7- دعوة الى القراء بالرجوع الى كتب الاعجاز في هذه السورة .
قائمة المراجع
1- أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي
2- الجامع لاحكام القران لمحمد بن احمد القرطبي
3- اسرار ترتيب القران للسيوطي
4- السلسلة الضعيفة للالباني
5- الوسيط للزحيلي
6- تفسير البقاعي
7- تفسير ابن عاشور
8- فتح البيان في مقاصد القران لصديق خان
9- فتح القدير للامام الشوكاني
10- مسند الامام احمد
11- منتديات اذكر الله
12- موقع الشيخ ابن عثيمين
13- صحيح البخاري
14- جامع الترمذي
فهرس الموضوعات
العنوان الصفحة
الملخص ........................................................................ 3
المقدمة ......................................................................... 4
المبحث الأول بين يدي سورة الرحمن
المطلب الأول :اثبات اسم سورة الرحمن .................................. 8
المطلب الثاني :سبب نزول سورة الرحمن وأين نزلت.................. 9
المطلب الثالث :الوحدة الموضوعية لسورة الرحمن..................... 11
المطلب الرابع : مناسبة سورة الرحمن لما قبلها وما بعدها............ 14
المبحث الثاني :التفسير الموضوعي لسورة الرحمن
المطلب الأول:آلاء الله الباهرة ونعمه الكثيرة الظاهرة وتوبيخ من يكفر بها.. 15
المطلب الثاني :فناء المخلوقات وبقاء الله سبحانه وتعالى..................... 25
المطلب الثالث: محاسبة الخلائق.................................................. 28
المطلب الرابع: أحوال من كفر بنعم الله ......................................... 31
المطلب الخامس: ما أعده الله لمن شكر أنعمه................................ 35
الخاتمة............................................................................... 41 قائمة المراجع ...................................................................... 42
جزاكم الله على تقاصمك معنا بحثك القيم
ردحذفجعله الله في ميزان حسناتك